مؤخراً أن قولنا " القرآن المقدّس " ، " النبي المقدّس " ألفاظ لا تصح ؛
لأنها لم ترد في الكتاب أو السنَّة ، فالقرآن وصف نفسَه بأنه كريم وأنه
عظيم ، ولكن لم يرد فيه أبداً لفظ مقدّس ، فهل ورد استخدام هذا اللفظ عن
أحد من السلف ؟ وبالمثل أيضاً هل قولنا " النبي المقدّس " بدعة ؟ وهل هذا
اللفظ صوفي المنشأ ؟ . وجزاكم الله خيراً .
الحمد لله
أولاً:
من حيث معنى " المقدَّس " في لغة العرب فإنه ليس ثمة ما يمنع من إطلاق لفظ "
المقدَّس " على القرآن الكريم وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أبرز
معاني الكلمة : المبارك والمطهَّر ، وكلاهما وصفان يتصف بهما القرآن
والنبي صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في " لسان العرب " ( 6 / 168 ) : " و " المُقَدَّس " : المُبارَك ،
والأَرض المُقَدَّسة : المطهَّرة ، وقال الفرَّاء : الأَرض المقدَّسة :
الطاهرة ، وهي دِمَشْق وفِلَسْطين وبعض الأُرْدُنْ ، ويقال : أَرض مقدَّسة
أَي : مباركة ، وهو قول قتادة ، وإِليه ذهب ابن الأَعرابي " انتهى من
انتهى .
والقرآن هو أحق بالطهر والتقديس من كل كلام ؛ فهو مطهر عن كل عيب ونقص ،
مقدس عن الخطأ ، أو أن يشتبه بكلام البشر ؛ لكننا مع ذلك نرى أن وصفه ذلك ،
لا يعني أن يطلق عليه أنه ( الكتاب المقدس ) على سبيل الاسم ، أو اللقب
الملازم له ، كما هو حال النصارى مع كتابهم ؛ لأننا لم نعرف ذلك عن السلف ،
ولم يعد عنهم تلك التسمية ، ويخشى أن يكون فيها ـ أيضا ـ نوع تشبه أو
محاكاة لأهل الكتاب مع كتابهم .
وينظر جواب السؤال رقم (176046) .
ثانياً:
يظهر مما ذكرناه أن لفظة " المقدَّس " لا تختص بالله تعالى ، بل تُطلق على بعض المخلوقات مما يستحق هذا الوصف .
وقد جاء في " الفروق اللغوية " ( ص 125 ) لأبي هلال العسكري – نقلا عن غيره
في الفرق بين التسبيح والتقديس - : " والحاصل : أن التقديس لا يختص به
سبحانه بل يستعمل في حق الآدميين ، يقال : فلان رجل مقدَّس : إذا أريد
تبعيده عن مسقطات العدالة ووصفه بالخير ، ولا يقال : رجل مسبَّح ، بل ربما
يستعمل في غير ذوي العقول أيضاً ، فيقال : قدَّس الله روح فلان ، ولا
يقال : سبَّحه .
ومن ذلك قوله تعالى ( ادْخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ ) يعني : أرض المقدسة ، يعني : أرض الشام .
انتهى .
وفي " تفسير السعدي " ( ص 449 ) : " ( قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) وهو
جبريل ، الرسول المقدَّس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة " . انتهى .
وقال تعالى ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) المائدة/ 21 .
قال ابن كثير – رحمه الله - : " فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال ( يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) أي : المطهرة " انتهى من "
تفسير ابن كثير " ( 3 / 75 ) .
وقال ابن عاشور – رحمه الله - : " والأرض المقدّسة بمعنى : المطهّرة
المباركة ، أي : الّتي بارك الله فيها " انتهى من " التحرير والتنوير " ( 6
/ 162 ) .
ثالثاً:
كلا الوصفين – المبارَك والمطهَّر – قد وصف بهما القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم .
1. وصف " مبارَك "
أ. أما القرآن الكريم فقد جاء وصفه بأنه " مُبَارك " في قوله تعالى ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) ص/ 29 .
ب. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو مبارَك في رسالته وفي أفعاله وفي ذاته وآثاره حتى بعد وفاته .
قال الشيخ سعيد بن وهف القحطاني – وفقه الله - : " والأمور المباركة أنواع منها :
1. القرآن الكريم مبارَك ، أي : كثير البركات والخيرات ؛ لأن فيه خير
الدنيا والآخرة ، وطلب البركة من القرآن يكون : بتلاوته حق تلاوته والعمل
بما فيه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل .
2. الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبارك ، جعل الله فيه البركة ، وهذه البركة نوعان :
أ. بركة معنوية : وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة ، لأن
الله أرسله رحمة للعالمين وأخرج الناس من الظلمات إلى النور وأحل لهم
الطيبات وحرم عليهم الخبائث وختم به الرسل ، ودينه يحمل اليسر والسماحة .
ب. بركة حسّيّة ، وهي على نوعين :
النوع الأول : بركة في أفعاله صلّى الله عليه وسلّم ، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالة على صدقه .
النوع الثاني : بركة في ذاته وآثاره الحسية ، وهي ما جعل الله له صلّى الله
عليه وسلّم من البركة في ذاته ؛ ولهذا تبرك به الصحابة في حياته وبما بقي
له من آثار جسده بعد وفاته " انتهى من " نور السنة وظلمات البدعة " ( ص
49 ، 50 ) - ترقيم الشاملة - .
2. وصف " مطهَّر " .
أ. جاء وصف القرآن بأنه مطهَّر في قوله تعالى ( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ
يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) البيِّنة/ 2 .
قال الطبري – رحمه الله - : " يقول : يقرأ صحفاً مطهرة من الباطل " انتهى من " تفسير الطبري " ( 24 / 540 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : " ( مُطَهَّرَة ) أي :
منقاة من الشرك ومن رذائل الأخلاق ومن كل ما يسوء ؛ لأنها نزيهة مقدسة .
" تفسير جزء عمَّ " ( ص 281 ) .
ب. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو مطهَّر – أيضاً ، فقد طهَّر الله تعالى باطنه .
قال أبو القاسم السهيلي – رحمه الله - : " والقول عندي في الرسول عليه
السلام : أنه متطهِّر ومُطهَّر ، أما متطهِّر : فلأنه بشرٌ آدميٌّ يغتسل
من الجنابة ويتوضأ من الحدث ، وأما مطهَّر : فلأنه قد غُسل باطنُه وشُقَّ
عن قلبه ومُلئ حكمة وإيماناً فهو مطهَّر ومتطهِّر " انتهى من " الروض
الأُنف " ( 2 / 119 ) .
ومع
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطهر مبارك ، منزه عن كل ما يعيبه
ويشينه وينقص من قدره وشانه ، حاشاه ، صلى الله عليه وسلم ؛ فإننا لا نرى
أن يطلق عليه وصف (المقدس) أو يقرن ذلك باسمه ؛ ولا نعلم أحدا من أهل
السلف أو أهل العلم والسنة والاتباع قد فعل ذلك معه صلى الله عليه وسلم ،
ولا نعلم أيضا أنه أطلق عليه ذلك في شيء من النصوص الشرعية ، ويخشى أن
يفتح ذلك باب الغلو ، والإطراء له بما يخالف هديه ، ويوقع في نهيه صلى الله
عليه وسلم في قوله ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ
مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
) رواه البخاري ( 3261 ) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : " وقال ابن التين : معنى قوله ( لاَ
تُطْرُونِي ) : لا تمدحوني كمدح النصارى ، حتى غلا بعضهم في عيسى ، فجعله
إلهاً مع الله ، وبعضهم ادَّعى أنه هو الله ، وبعضهم ابن الله " انتهى من "
فتح الباري " ( 12 / 149 ) .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب